فصل: تفسير الآيات رقم (102- 107)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏نجياً‏)‏‏:‏ حال، أي‏:‏ انفردوا عن الناس مناجين‏.‏ وإنما أفرده؛ لأنه مصدر، أو بزنته‏.‏ و‏(‏من قبل ما‏)‏‏:‏ يحتمل أن تكون مزيدة ومصدرية مرفوعة بالابتداء، أي‏:‏ تفريطكم في يوسف واقع من قبل هذا‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏ وفيه نظر؛ فإن الظرف المقطوع لا يقع خبراً، أوْ منصوبة بالعطف على مفعول ‏(‏تعلموا‏)‏، أي‏:‏ لم تعلموا أخذ ميثاق أبيكم، وتفريطكم في يوسف قبل هذا‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فلما استيأسوا‏}‏؛ أي يئسوا ‏{‏منه‏}‏ من يوسف أن يجيبهم إلى ما دعوه إليه من أخذ أحدهم مكان أخيهم، ‏{‏خَلَصُوا‏}‏ أي‏:‏ تخلصوا من الناس، وانفردوا عنهم ‏{‏نجيّاً‏}‏ متناجين، يناجي بعضهم بعضاً‏:‏ كيف وقع للصاع‏؟‏ وكيف يتخلصون من عهد أبيهم‏؟‏ ثم فسر تلك المناجاة‏:‏ ‏{‏قال كبيرُهمْ‏}‏ في السن، وهو رُوَيْبيل، أو في الرأي، وهو شمعون، وقيل يهوذا‏:‏ ‏{‏ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله‏}‏؛ عهداً وثيقاً، وحلفتم له لتأتن بابنه إلا أن يُحاط بكم‏؟‏ فكيف تصنعون معه، ‏{‏ومن قبلُ‏}‏ هذا ‏{‏فرطتم في يوسف‏}‏ واعتذرتم بالأعذار الكاذبة‏؟‏ ‏{‏فلن أبرح الأرض‏}‏؛ فلن أفارق أرض مصر ‏{‏حتى يأذن لي أبي‏}‏ في الرجوع، ‏{‏أو يحكم الله لي‏}‏‏:‏ أو يقضي لي بالخروج منها، أو بتخليص أخي منهم قهراً، ‏{‏وهو خيرُ الحاكمين‏}‏؛ لأن حكمه لا يكون إلا بالحق‏.‏

رُوي أنهم كلموا العزيز في إطلاقه، فقال رويبيل، وقيل‏:‏ يهوذا‏:‏ أيها الملك، لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل، ووقف شعر جسده، فخرجت من ثيابه، فقال يوسف لابنه الصغير، واسمه نائل‏:‏ قم إلى جنبه ومُسَّه، فمسه، وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم لا يسكن غضبه إلا إذا مسه أحد من آل يعقوب، فلما مسه ولد يوسف عليه السلام سكن غضبه، فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ إن في هذا البلد لبذراً من بذر يعقوب‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم هموا بالقتال، وقال يهوذا لإخواته‏:‏ تفرقوا في أسواق مصر، وأنا أصيح صيحة تشق مراريهم، فإذا سمعتم صوتي، فاخربوا يميناً وشمالاً، فلما غضب، وأراد أن يصيح مسه ولد يوسف فسكن، فلما لم يسمعوا صوته أتوا إليه فوجدوا قد سكن غضبه، فقال‏:‏ إن هنا بذراً من آل يعقوب‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا أنّ ابنك سرق‏}‏ على ما شهدنا من ظاهر الأمر، ‏{‏وما شهدْنا إلا بما علمنا‏}‏ بأن رأينا الصاع استُخرج من وعائه‏.‏ ‏{‏وما كنا للغيب حافظين‏}‏ أي ما كنا لباطن الأمر حافظين، فلا ندري أسرق، أو أحد دسه في وعائه‏؟‏ أو ما كنا حين أعطيناك العهد حافظين للغيب، عالمين بالقدر المغيب، وأنك تصاب به كما أصبت بأخيه‏.‏ ‏{‏واسأل القرية التي كنا فيها‏}‏؛ وهي القرية التي لحقهم فيها المنادي، أي‏:‏ أرسل إليهم عن القصة إن اتهمتنا‏.‏

«‏{‏و‏}‏ سل أيضاً ‏{‏العيرَ‏}‏‏:‏ أهل العير، ‏{‏التي أقبلنا فيها‏}‏، والعير‏:‏ جماعة الإبل‏.‏ ‏{‏وإنا لصادقون‏}‏ فيما أخبرناك به‏.‏ هذا تمام وصية كبيرهم‏.‏ فلما رجعوا إلى أبيهم، وقالوا له ما قال لهم كبيرهم‏.‏

‏{‏قال‏}‏ لهم أبوهم‏:‏ ‏{‏بل سَوَّلت لكم أنفسُكم أمراً‏}‏ أي‏:‏ زينت لكم أمراً فصنعتموه، وإلا فمن أين يدري الملك أن السارق يُؤخذ في السرقة، إذ ليست بشريعته، ‏{‏فصبر جميلٌ‏}‏ أي‏:‏ فأمري صبر جميل، ‏{‏عسى اللهُ أن يأتيني بهم جميعاً‏}‏؛ بيوسف وبنيامين، وأخيهما الذي بقي بمصر؛ ‏{‏إنه هو العليمُ‏}‏ بحالي وحالهم، ‏{‏الحكيم‏}‏ في تدبيره‏.‏ رُوي أن عزرائيل دخل ذات يوم على يعقوب عليهما السلام فقال له يعقوب‏:‏ جئت لقبض روحي، أو لقبض روح أحد من أولادي وأهلي‏؟‏ قال‏:‏ إنما جئت زائراً، فقال له‏:‏ أقسمت عليك بالله إلا ما أخبرتني، هل قبضت روح يوسف‏؟‏ فقال‏:‏ لا، بل هو حي سَوِيّ، وهو ملك وله خزائن، وجنود وعبيد، وعن قريب يجمع الله شملك به‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ فلما استيأس القلب من الدنيا، والرجوع إليها، وقطع يأسه من حظوظها وهواها، خلصت له المناجاة وصفت له أنوار المشاهدات، وأنواع المكالمات، والقلب هو كبير الأعضاء وملكها، فيقول لها‏:‏ ألم تعلموا أن الله قد أخذ عليكم موثقاً ألا تعصوه ولا تُخالفوه، ومن قبل هذا وهو زمان البطالة، قد فرطتم في عبادته، فلن أبرح أرض العبودية حتى يأذن لي في العروج إلى سماء شهود عظمة الربوبية، أو يحكم لي بالوصال، وهو خير الحاكمين‏.‏ فإن وقعت من الجوارح هفوة فيقال لها‏:‏ ارجعوا إلى أبيكم وهو القلب فقولوا‏:‏ إن ابنك سرق، أي‏:‏ تعدى وأخذ ما ليس له من الهوى فيما ظهر لنا، وما شهدنا إلا بما علمنا، فرب معصية في الظاهر طاعة في الباطن، واسأل البشرية التي كنا فيها والخواطر التي أقبلنا على المعصية فيها، فيقول القلب‏:‏ بل زينت لكم أنفسكم أمر الهوى، فدواؤكم الصبر الجميل، والتوبة للعظيم الجليل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً، فنصرفهم في طاعة الله ومرضاته‏.‏ والله تعالى أعلم بأسرار حِكَم كتابه، فعلم الإشارة يقبل مثل هذا وأكثر‏.‏ وإياك والانتقاد؛ فقد قالوا في باب الإشارة أرق من هذا وأغرب‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ يا أسفي، ويا ويلتي، ويا حسرتي، مما عوض فيه الألف عن ياء المتكلم‏.‏ والأسف‏:‏ أشد الحزن‏.‏ وقيل‏:‏ شدة الحسرة‏.‏ و‏(‏كظيم‏)‏‏:‏ إما بمعنى مفعول، كقوله‏:‏ ‏(‏وهو مكظوم‏)‏؛ أي‏:‏ فهو مملوء غيظاً على أولاده، ممسك له في قلبه، تقول‏:‏ كظم السقاء؛ إذا شد على ملئِه‏.‏ أو بمعنى فاعل؛ كقوله‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏؛ من كظم البعير جِرَّتَهُ؛ إذا ردها في جوفه‏.‏ و‏(‏تفتأ‏)‏‏:‏ من النواقص اللازم للنفي، وحذفه هنا لعدم الإلباس؛ لأنه لو كان مثبتاً لأكد باللام والنون‏.‏ والحرض‏:‏ المريض المشرف على الهلاك، وهو في الأصل مصدر، ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع‏.‏ والبث‏:‏ أشد الحزن‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وتولّى‏}‏ يعقوب عن أولاده، أي‏:‏ أعرض ‏{‏عنهم‏}‏ لما لم يصدقهم، كراهةً إما صادف منهم، ورجع إلى تأسفه ‏{‏وقال يا أسَفَا‏}‏ أي‏:‏ يا شدة حزني ‏{‏على يوسف‏}‏‏.‏ وإنما تأسف على يوسف دون أخويه لأن محبته كانت أشد؛ لإفراط محبته فيه، ولأن مصيبته سبقت عليهما‏.‏ ‏{‏وابيضَّتْ عيناه‏}‏ من كثرة البكاء ‏{‏من الحُزن‏}‏، كأَنَّ العَبْرَةَ محقت سوادها، وقيل‏:‏ ضعف بصره، وقيل‏:‏ عمي‏.‏ وقد رُوي أنه‏:‏ «حَزِنَ يعقُوب حُزْن سبعين ثَكْلَى، وأُعطِي أَجر مائَة شَهيدٍ، وما ساءَ ظَنّه بالله قَطّ»‏.‏

وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع‏.‏ ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف، فإنه قلَّ من يملك نفسه عند الشدائد، وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «القلْبُ يَحْزَنُ، والعَيْنُ تَدمَعُ، ولا نَقُولُ إلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وإنَّا على فِراقِكَ يا إبراهِيمُ لَمَحْزُونون»‏.‏

‏{‏فهو كظيم‏}‏ أي‏:‏ مملوء غيظاً على أولاده؛ لما فعلوا‏.‏ أو كاظم غيظه، ماسك له، لم يظهر منه شيئاً، ولم يَشْكُ لأحد‏.‏

‏{‏قالوا تاللهِ تَفْتَؤا‏}‏‏:‏ لا تزال ‏{‏تذكرُ يوسفَ‏}‏ تفجعاً عليه، ‏{‏حتى تكون حَرَضاً‏}‏‏:‏ مشرفاً على الهلاك، ‏{‏أو تكون من الهالكين‏}‏‏:‏ من الميتين‏.‏ ‏{‏قال إنما أشكو بَثّي‏}‏ أي‏:‏ شدة همي ‏{‏وحزني‏}‏ الذي لا صبر عليه، ‏{‏إلى الله‏}‏ لا إلى أحد منكم ولا غيركم؛ فَخَلّوني وشِكَايتي، فلست مِمَّن يجزع ويَضْجَر؛ فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف فيه؛ لأن فيه إظهار الفقر، والعجر بين يديه، وهو محمود‏.‏ ‏{‏وأعلمُ من الله ما لا تعلمون‏}‏ أي‏:‏ أعلم من لطف الله ورأفته ورحمته، ما يوجب حسن ظني وقوة رجائي، وأنه لا يخيب دعائي، ما لا تعلمون‏.‏ أو‏:‏ وأعلم من طريق الوحي من حياة يوسف ما لا تعلمون؛ لأنه رأى ملك الموت فأخبره بحياته، كما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى تخر له إخوته سُجّداً‏.‏

‏{‏يا بَني اذهبوا‏}‏ إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم، ‏{‏فتحسسُوا من يوسفَ وأخيهِ‏}‏ أي‏:‏ تعرفوا من خبرهما، وتفحَّصوا عن حالهما‏.‏

والتحسس‏:‏ طلب الشيء بالحواس‏.‏ وإنما لم يذكر الولد الثالث؛ لأنه بقي هناك اختياراً‏.‏ وفي ذكر يوسف دليل على أنه كان عالماً بحياته‏.‏ ‏{‏ولا تيأسوا من رَّوْح الله‏}‏‏:‏ لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه، أو من رحمته، وقرئ بضم الراء، أي‏:‏ من رحمته التي يحيي بها العباد، أي‏:‏ ولا تيأسوا من حي معه روح الله؛ فكل من بقي روحه يرْجى، أي‏:‏ ويوسف عندي، فمن معه روح الله فلا تيأسوا من رجوعه‏.‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي‏:‏ الشأن ‏{‏لا ييأسُ من رَّوْح الله إلا القومُ الكافرون‏}‏ بالله وصفاته؛ لأن العارف لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال‏.‏ وإنما جعل اليأس من صفة الكافر؛ لأن سببه تكذيبٌ بالربوبية، أو جهل بصفة الله وقدرته، والجهل بالصفة جهل بالموصوف، فالإياس من رحمة الله كفر‏.‏

وأما الحديث الرجل الذي قال‏:‏ ‏(‏إذا متُّ فاحرقوني، ثم اذْروني في البحر والبر في يوم رائح، فلئِنِ قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من الناس‏)‏، حسبما في الصحيح، فليس فيه اليأس ولا تعجيز القدرة، لكن لما غلبه الخوف المفرط لم يتأمل ولم بضبط حاله؛ إما لحقه من الخوف وغمره من الدهش، دون عقد ولا إصرار على نفي الرحمة واليأس منها‏.‏ ويدل على ذلك قوله‏:‏ ‏(‏لما قال له الرب تعالى‏:‏ ما حملك على هذا‏؟‏ قال‏:‏ مخافتك، فغفر له‏)‏‏.‏ ولم يقل اليأس من رحمتك‏.‏ انظر المحشي الفاسي‏.‏

الإشارة‏:‏ لم يتأسف يعقوب عليه السلام على فقد صورة يوسف الحسية، إنما تأسف على فقد ما كان يشاهد فيه من جمال الحق وبهائه، في تجلي يوسف وحسن طلعته البهية، وفي ذلك يقول ابن الفارض‏:‏

عَيْني لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظُرُ *** وسِوَاكمُ فِي خَاطِري لا يَخطرُ

فلما فقد ذلك التجلي الجمالي حزن عليه، وإلا فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أولى بالغنى بالله عما سواه‏.‏ فإذا حصل للقلب الغنى بالله لم يتأسف على شيء، ولم يحزن على شيء؛ لأنه حاز كل شيء، ولم يفته شيء‏.‏ «ماذا فقد من وجده، وما الذي وجد من فقده»‏.‏ ولله در القائل‏:‏

أَنَا الفَقِيرُ إِليْكُمُ والْغَنِيُّ بِكُمُ *** وَلَيْس لِي بَعدَكُمُ حِرْصٌ عَلى أَحدِ

وهذا أمر محقق، مذوق عند العارفين؛ أهل الغنى بالله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنما أشكو بثي وحزني إلى الله‏}‏‏:‏ فيه رفع الهمة عن الخلق، والاكتفاء بالملك الحق، وعدم الشكوى فيما ينزل إلى الخلق‏.‏‏.‏‏.‏ وهو ركن من أركان طريق التصوف، بل هو عين التصوف‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 92‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏من يتق ويصبر‏)‏‏:‏ من قرأ بالياء‏:‏ أجرى الموصول مجرى الشرط؛ لعمومه وإبهامه، فعطف على صلته بالجزم، ومنه قول الشاعر‏:‏

كذَلِكَ الذي يَبْغي عَلَى النَّاسِِ ظَالِماً *** تُصْبه عَلَى رغمِ عَوَاقِبُ مَا صَنَعْ

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فلما دخلوا عليه‏}‏ على يوسف حين رجعوا إليه مرة ثالثة، ‏{‏قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضُّرُّ‏}‏ شدة الجوع ‏{‏وجئنا‏}‏ إليك ‏{‏ببضاعةٍ مُّزجَاةٍ‏}‏‏:‏ رديئة، أو قليلة، أو ناقصة، تدفع وترد من أزجيته، دفعته‏.‏ ومنه ‏{‏يُزْجِي سَحَاباً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏ قيل‏:‏ كانت دراهم زيوفاً وقيل‏:‏ الصنوبر وحبة الخضراء‏.‏ وقيل‏:‏ سَويق المُقْل أي‏:‏ الدوم‏.‏ وقيل‏:‏ عروضاً‏.‏ ‏{‏فأوْف لنا الكَيْلَ‏}‏‏:‏ أتممه لنا، ‏{‏وتصدَّقْ علينا‏}‏ بالمسامحة، وقبول المزجاة، أو بالزيادة على ثمننا‏.‏ وهذا يقتضي أن الصدقة كانت حلالاً على الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف المشهور‏.‏ أو برد أخينا، ‏{‏إن الله يجزي المتصدّقين‏}‏ أحسن الجزاء‏.‏ والتصدق‏:‏ التفضل مطلقاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في القصر‏:‏ «هذهِ صَدَقةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ عَلَيكُمْ بها، فاقبلوا صدقته»‏.‏

رُوي أن يعقوب عليه السلام لما أرسلهم أرسلهم المرة الثالثة ليتحسسوا أخبار يوسف وأخيه، أرسل معهم كتاباً ونصه‏:‏ بسم الله الرَّحمن الرحيم، من يعقوب الحزين إلى عزيز مصر، ولو عرفت اسمك لذكرتك في كتابي هذا، يا من أعتز بعز الله، فالله يُعِزُ من يشاء، ويُذل من يشاء، وإني أيها العزيز قد اشمأز قلبي، وقطع الحزن أوصالي، وإني ناهٍ إلى الإقراح، دائم البكاء والصياح، وإني من نطفة آباء كرام، فكيف يتولد اللصوص مني وأنا من الخصوص‏!‏ وقد أخبرت أنك وضعت الصَّاع بالليل في رحل ولدي الأصغر، وإني حزين عليه كما كنتُ حزيناً على أخيه الفقيد، حزناً دائماً سرمداً شديداً‏.‏ وإن كنت أفجعتني في الآخرة؛ فإن قلبي لا محالة طائر‏.‏ ثم ختمه بالسلام‏.‏

فلما دفعوه ليوسف قرأه‏.‏ وبكى بكاء شديداً، ثم دفعه لأخيه بنيامين فقرأه وبكى أيضاً‏.‏ ثم نزل عن سريره، ثم دفع لهم الكتاب الذي كانوا يكتبوه لمالك بن ذعْر لما باعوه بخطوط شهادتهم، كان أخذه من مالك حين باعه‏.‏ فلما قرأوه تغيرت ألوانهم وتضعضعت أركانهم، وبُهتوا، فقال لهم‏:‏ ‏{‏هلْ علمتم ما فعلتم بيوسفَ وأخيه‏}‏؛ من إيذاء يوسف، وتفريقه من أبيه، ومضرة أخيه من بعده، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه، أي‏:‏ هل علمتم قبحة فتبتم منه‏؟‏ قاله نصحاً وتحريضاً لهم على التوبة‏.‏ ‏{‏إذ أنتم جاهِلَون‏}‏ أي‏:‏ فعلتم ذلك حين كنتم جاهلين قُبح ذلك‏.‏ وإنما سماهم جاهلين؛ لأن فعلهم حينئذٍ فعل الجهال، أو لأنهم حينئذٍ كانوا صبياناً طياشين، فعرفوه حينئذٍ على ظن، فقالوا‏:‏ ‏{‏أئنك لأنتَ يوسف‏}‏ ‏؟‏ بالاستفهام التقريري‏.‏ وقرأ ابن كثير على الإيجاب‏.‏ قيل‏:‏ عرفوه بذوائبه وشمائله حين نزل إليهم وكلمهم‏.‏

وقيل‏:‏ تبسم فعرفوه بثناياه‏.‏ وقيل‏:‏ رفع التاج عن رأسه فعرفوه بِشَامةٍ كانت في رأسه بيضاء، وكانت لسارة يعقوب مثلها‏.‏

‏{‏قال‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏أنا يوسف وهذا أخي‏}‏ من أبي وأمي‏.‏ ذكره تعريفاً لنفسه به، وتفخيماً لشأنه، وإدخالاً له في المنة بقوله‏:‏ ‏{‏قد مَنّ الله علينا‏}‏ بالسلامة والكرامة والعز‏.‏ ‏{‏إنه من يتقِ‏}‏ الله ‏{‏ويصبرْ‏}‏ على بلواه، وعلى طاعته وتقواه ‏{‏فإن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏، وضع المحسنين موضع المضمر؛ تنبيهاً على أن المحسن جمع بين الصبر والتقوى‏.‏ فمن اتقى الله وصبر فهو محسن‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏قالوا تالله لقد آثَرَكَ اللهُ علينا‏}‏ بحسن الصورة وكمال السيرة، أو فضلك علينا رغماً على أنفنا، ‏{‏وإن كنا لخاطئين‏}‏ أي‏:‏ والحال أن شأننا أنَّا كنا مذنبين فيما فعلنا معك‏.‏ ‏{‏قال لا تثريبَ‏}‏‏:‏ لا عتاب ‏{‏عليكم اليوم‏}‏ أي‏:‏ لا عقوبة عليكم في هذا اليوم‏.‏ ثم دعا لهم فقال‏:‏ ‏{‏يغفرُ الله لكم‏}‏، فيوقف على اليوم‏.‏ وقيل‏:‏ يتعلق بيغفر، فيوقف على ما قبله، وهو بعيد؛ لأنه تحكم على الله، وإنما يصلح أن يكون دعاء، إذ هو الذي يليق بآداب الأنبياء، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏لا تثريب عليكم اليوم‏}‏، ثم دعا الله أن يغفر لهم الله حقه‏.‏ قاله ابن جزي، وصدر به البيضاوي‏.‏ وبه تعلم ضعف وقف الهبطي‏.‏

ثم قال في تمام دعائه‏:‏ ‏{‏وهو أرحمُ الراحمين‏}‏؛ فإنه يغفر الصغائر والكبائر، ويتفضل على التائب‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ومن كرم يوسف عليه السلام أنهم لما عرفوه أرسلوا له، وقالوا‏:‏ إنك تدعوننا بالبكرة والعشي إلى الطعام، ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك، فقال لهم‏:‏ إن أهل مصر كانوا ينظرون إليَّ بالعين الأولى، ويقولون‏:‏ سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفْت بكم، وعظمت في أعينهم حيث إنكم إخوتي، وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ من رام الدخول إلى حضرة الكريم الغفار، فليدخل من باب الذل والانكسار‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار»‏.‏ فإذا قرعت الباب، ورمت الدخول مع الأحباب، فقل بلسان التضرع والانكسار‏:‏ يا أيها العزيز الغفار مسنا الضر، وهو البعد والغفلة، وجئنا ببضاعة مزجاة؛ عمل مدخول، وقلب معلول، فأوْفِ لنا ما أملناه من الجزاء المأمول، وتفضل علينا بالقبول والوصول، وقل‏:‏ اليوم نغفر لكم ونغطي مساوءكم، ونوصلكم بما مني إليكم من الإحسان، لا بما منكم إلينا الطاعة والإذعان‏.‏ هؤلاء إخوة يوسف لما أظهروا فاقتهم، واستقلوا بضاعتهم، وأحضروا شكايتهم، سمح لهم وقربهم، وكشف لهم عن وجهه الجميل، ومنحهم العطاء الجزيل، فما ظنك بالرب العظيم الجليل، الذي هو أرحم الراحمين، ومحل أمل القاصدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 98‏]‏

‏{‏اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جواب ‏(‏لولا‏)‏‏:‏ محذوف، أي‏:‏ لولا أن تفندون لقلت إنه قريب، أو لصدقتموني‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ قال يوسف لإخوته لما عرفوه، وأزال ما بينه وبينهم من الوحشة، وقد أخذ قميصه‏:‏ ‏{‏اذهبوا بقميصي هذا‏}‏، رُوي أن هذا القميص كان لإبراهيم الذي لبسه حين كان في النار، وقيل‏:‏ ألبسه له جبريل حين خرج من النار، وكان من ثياب الجنة، ثم كان لإسحاق ثم ليعقوب، ثم كان دفعه ليوسف، فكان عنده في حِفَاظ من قصب، وكان في عنقه في الجب، وأمره جبريل بإرساله، وقال‏:‏ إنه قميص يوسف الذي هو منه بمنزلة قميص كل واحد‏.‏ وبهذا تتبين الغرابة في أن وجد يعقوبُ ريحة من بُعدٍ ولو كان من قميص الجنة لما كان في ذلك غرابة، ويجده كل أحد‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وما قاله لا ينهض؛ لأن ما ظهر من الجنة إلى دار الدنيا لا يبقى على حاله دائماً؛ لأنه من أسرار الغيب، بل لا يجده إلا أهل الذوق من أهل القرب، كنور الحجر الأسود، وغيره مما نزل من الجنة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم قال لهم اذهبوا به‏:‏ ‏{‏فألقوه على وجهِ أبي يأتِ بصيراً‏}‏ أي‏:‏ يرجع بصيراً، علم ذلك بوحي، أو تجربة من القميص، ‏{‏وأتوني بأهلكم أجمعين‏}‏؛ نسائكم وذراريكم وأموالكم‏.‏

‏{‏ولما فَصَلَتِ العيرُ‏}‏ من مصر، وخرجت من عمارتها، ‏{‏قال أبوهم‏}‏ لمن حضره‏:‏ ‏{‏إني لأجِدُ ريحَ يوسف‏}‏؛ أوجده الله، ريح ما عَبَق من قميصه حين أقبل إليه به يهوذا من ثمانين فرسخاً؛ لأن يعقوب كان إذ ذاك ببيت المقدس، ويوسف بمصر، ‏{‏لولا أن تُفَنِّدون‏}‏؛ تنسبوني إلى الفِند، وهو‏:‏ نُقصان عَقْلِ يحدث من هِرَم‏.‏ ولذلك لا يقال عجوز مفندة؛ لأن نقصان عقلها ذاتي‏.‏ أي‏:‏ لولا أن تحمِّقوني لقلت إنه قريب، أو لصدقتموني في ذلك، أو لولا أن تلوموني، وتردوا عليّ قولي لقلت إنه ريح يوسف‏.‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ الحاضرون‏:‏ ‏{‏تاللهِ إنك لفي ضلالِكَ القديم‏}‏ أي‏:‏ إنك لفي خطئك القديم بالإفراط في محبة يوسف، وإكثار ذكره، وتوقع لقائه‏.‏

‏{‏فلما أن جاءَ البشير‏}‏ أي‏:‏ المبشر، وهو يهوذا‏.‏ رُوي أنه قال‏:‏ كنتُ أحزنْتُه بِحَمل قميصه المُلَطَّخ بالدم إليه، اليوم أفرحُه بحمل هذا إليه‏.‏ وفي رواية عنه قال‏:‏ إني ذهبت إليه بقميص التَّرْحَة، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة‏.‏ فلما وصل إليه ‏{‏ألقاه على وجهه‏}‏؛ طرح البشيرُ القميصَ على وجه يعقوب، أو‏:‏ القاه يعقوبُ بنفسه على وجهه، ‏{‏فارتدَّ بصيراً‏}‏ بقدرة الله وبركة القميص‏.‏ ‏{‏قال ألم أقلْ لكم إني أعلمُ من الله ما لا تعملون‏}‏ من حياة يوسف، وإنزال الفرج‏.‏

‏{‏قالوا يا أبانا استغفرْ لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين‏}‏، وقد اعترفنا بذنوبنا، وسألنا المغفرة‏.‏

‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم‏}‏، أخره إلى السَّحَر، أو إلى صلاة الليل، أو إلى ليلة الجمعة، تحرياً لوقت الإجابة، أو إلى أن يتحلّل لهم من يوسف، فإن عفو المظلوم شرط في المغفرة، ويؤيده ما رُوي أنه لما اجتمع به، وتحلل منه، استقبل يعقوبُ القبلة قائماً يدعو، ويوسفُ خلفه يؤمن، وقاموا خلفهما أذلةً خاشعين، حتى نزل جبريل وقال‏:‏ إن الله قد أجاب دعوتك في أولادك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة‏.‏ وهو إن صح، دليل نبوتهم، وأن ما صدر منهم كان قبل نبوتهم، قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الحق جل جلاله جعل للبشرية عَيْنَين حسيين‏:‏ تبصر بهما الحسيات، وجعل للقلب عينين معنويين يرى بهما المعاني‏.‏ فالأول‏:‏ يسمى البصر، والثاني‏:‏ البصيرة‏:‏ فأحد عيني القلب تبصر أنوار الشريعة، والأخرى تبصر أسرار الحقيقة‏.‏ وقد يغشى القلب ظلمةُ الكفر، فتغطيهما معاً، وهو‏:‏ عمى البصيرة‏.‏ وقد يغشاه ظلمة المعاصي، واتباع الحظوظ والهوى، فتعمى عين الحقيقة، وجلباب العصمة على عين الشريعة، فيرجع القلب بصيراً‏.‏ ولا بد من صحبة شيخ عارف يعطيه هذا القميص، ويقول‏:‏ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه بصيرتكم، تأتي بصيرة عارفة، فإذا قرب منها هذا القميص هبَّ عليها نسيم الوصال، وهاج عليها الوجدُ والحالُ‏.‏ وأنشدت بلسان المقال‏:‏

سُوَيْداء قََلْبِي أَصْبَحَت حَرماً لَكُم *** تَطُوفُ بها الأسرارُ من عَالَم اللُّطف

وسائلُ ما بينَ المُحبِّين أَصْبَحَتْ *** تَجِلُّ عن التَّعْرِيفِ والرَّسم والعُرْفِ

رَسَائِل جَاءَتْنا بِِرُؤْيَا جَنَابِكُمْ *** عَوارِِفُ عُرف فَاقَ كُلَّ شّذا عَرف

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه‏}‏‏.‏ قبل هذا الكلام محذوفات، وهي‏:‏ فرحل يعقوب بأهله حتى بلغوا إليه، ولما دخلوا على يوسف‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

رُوي أن يوسف عليه السلام وجه إليه رواحل وأموالاً ليتجهز إليه بمن معه، وأرسل إليه مائة وثمانين كسوة من رفيع الثياب والعمائم لإخواته، وقميصان مُذَهبان للإناث، فلما وصلت إلى يعقوب لبس، وألبس أولاده‏.‏ وركبوا المراكب، وخرجوا من أرض كنعان يريدون مصر، فلما قربوا، أًمَرَ يوسف عليه السلام العساكر أن تخرج معه للقائهم، فأول من لقيهم ثلاثون ألف فارس، كلهم يسجدون بين يدي يعقوب، وهو يتعجب من عظم تلك الأجناد، ويضحك من نصر الله تعالى، وعزه لا بنه‏.‏ ثم لقيهم البغال، والجواري لنساء إخوته وأولادهم‏.‏ ثم لقيهم أربعون ألف شيخ من الوزراء والكبراء‏.‏ ثم استقبلهم يوسف عليه السلام مترجلاً ماشياً على قدميه، متواضعاً لأبيه، في مائة ألف، كلهم على أرجلهم، معهم الملك «ريَّان» ثم سلم يوسف عليه السلام والملك على أبيه، ثم اقبلا يبكيان، وبكى إخوته وضج الناس بالبكاء، ثم ضم إليه أبويه، وقيل‏:‏ أباه وخالته، ‏{‏وقال ادخلوا ان شاء الله آمنين‏}‏، ثم حُمل يعقوب عليه السلام في هودج من الذهب، ويوسف عليه السلام، وإخوته يمشون بين يديه مترجلين حتى دخلوا مصر، ثم أتوا إلى قصر مملكته‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فجلس يوسف عليه السلام على سريره، وأبوه عن يمينه، وخالته عن شماله، وإخوته بين يديه، فخروا له سجداً؛ لأنها كانت في ذلك الزمان يعني تحيتهم على الملوك رُوي أنهم قالوا في سجودهم‏:‏ سبحان مولف الشتات بعد الإياس، سبحان كاشف الضر بعد البأس‏.‏ فقال يوسف لأبيه‏:‏ ‏{‏يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ هكذا ذكر القصة صاحب الزهرالأنيق في قصة يوسف الصديق‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فلما دخلوا على يوسف‏}‏ بلده ومملكته ‏{‏آوى إليه أبويه‏}‏؛ أي‏:‏ اعتقهما، وسلم عليهما، وضمهما إليه‏.‏ قيل‏:‏ الأبوين حقيقة‏.‏ وقيل‏:‏ أباه وخالته، ونزَّل الخالة منزلة الأم تنزيلَ العم منزلة الأب في قوله‏:‏ ‏{‏نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏‏.‏

‏{‏وقال ادخلوها مصر إن شاء الله آمنين‏}‏ من القحط وأصناف المكاره‏.‏ والمشيئة متعلقة بالدخول المكيَّف بتلك الهيئة لا بالأمن‏.‏ وقال ابن جزي‏:‏ راجعة إلى الأمن‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وكان أولاد يعقوب الذين دخلوا مصر اثنين وسبعين رجلاً، وامرأة، وكانوا حين خرجوا مع موسى ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وتسعين رجلاً سوى الذرية والهرمى‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ورفع أبويهِ على العرش‏}‏، أي‏:‏ حين دخلوا قصر مملكته، ‏{‏وخرُّوا له سُجداً‏}‏؛ تحية وتكرمة؛ فإن السجود كان عندهم يجري مجرى التحية‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ خروا لأجله سجداً لله؛ شكراً‏.‏

وقول البيضاوي‏:‏ الرفع مؤخر عن الخرور، فيه نظر؛ لما تقدم عن صاحب الزهر الأنيق، ولا داعي إلى الخروج عن الظاهر إلا بنص صريح‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ واختلف في هذا السجود؛ فقيل‏:‏ كان المعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض، وقيل‏:‏ بل دون ذلك؛ كالركوع البالغ ونحوه، مما كان سيرة تحيتهم للملوك في ذلك الزمان‏.‏ وأجمع المفسرون أن ذلك السجود، كيفما كان، إنما كان تحيةً لا عبادة‏.‏

قال قتادة‏:‏ هذه كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة‏.‏ ثم قال‏:‏ قال أبو عمرو الشيباني‏:‏ تقدم يوسُفُ يعقوب عليه السلام في المشي في بعض تلك المواطن، فهبط جبريل فقال‏:‏ أتتقدَّم أباك‏؟‏ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبي‏.‏ ه‏.‏ قال المحشي الفاسي‏:‏ وما أظن لهذا صحة، وقد كان في ذريته «يوشع بن نون» عليه السلام، ويوسف المذكور في سورة الطَّوْل على قول‏.‏ وفي البيضاوي‏:‏ وكان عمر يوسف مائة عشرين سنة، وقد ولد له من راعيل‏:‏ إفراثيم وميشا، وهو جد يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ المذكورفي قصة أيوب أن زوجه رحمة إنما كانت ابنة إفراثيم بن يوشع لابنته‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يا أبت هذا تأوِيلُ رؤيايَ من قبلُ‏}‏؛ التي رأيتها أيام الصبا، وهي‏:‏ رؤيا أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون لي، ‏{‏قد جَعَلَهَا ربي حقاً‏}‏‏:‏ صدقاً‏.‏ وكان بين رؤياه وبين صدق تأويلها ثمانون عاماً، وقيل‏:‏ أربعون، وهو الأصح‏.‏ ‏{‏وقد أحسنَ بي إذ أخرجني من السجن‏}‏، ولم يذكر الجب؛ لئلا يخجل إخوته ولأنه خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك، فالنعمة هنا أوضح‏.‏ ‏{‏وجاءَ بكم من البَدْوِ‏}‏‏:‏ من البادية؛ لأنهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو، فعد عليهم من النعم انتقالهم للحاضرة؛ لأنها محل الراحة‏.‏ ‏{‏من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي‏}‏‏:‏ أفسد بيننا وحرش، من نَزَغَ الدابة إذا نخسها‏.‏ ‏{‏إن ربي لطيف لِمَا يشاء‏}‏ أي‏:‏ لطيف التدبير لما يشاء من الأمور؛ إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها، ‏{‏إنه هو العليم‏}‏ بوجوه المصالح والتدابير، ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يفعل كل شيء في وقته، على وجه تقتضيه الحكمة‏.‏

رُوي أن يوسف عليه السلام طاف بأبيه عليهما السلام في خزائنه، فلما أدخله خزانة القرطاس، قال‏:‏ يا بني، ما أغفلك، عندك هذه القراطيس وما كتبت لي على ثماني مراحل، قال‏:‏ أمرني جبريل، قال‏:‏ أو ما تسأله‏؟‏ قال‏:‏ أنت أبسط مني، سله، فقال جبريل‏:‏ أمرني ربي بذلك؛ لقولك ‏(‏إني أخاف أن يأكله الذئب‏)‏، فهلا خفتني‏.‏ ه‏.‏ قاله البيضاوي‏:‏ وزاد في القوت‏:‏ لِمَ خفت عليه الذئب ولم ترجني‏؟‏ ولِمَ نظرت إلى غفلة إخوته، ولم تنظر إلى حفظي له‏؟‏ فهذا على معنى قول يوسف عليه السلام للساقي‏:‏ ‏(‏اذكرني عند ربك‏)‏، فهذا مما يعتب على الخصوص من خفي سكونهم، ولمح نظرهم إلى ما سوى الله عز وجل‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ ما أحلى الوصال، بعد الفراق، وما ألذ شهود الحبيب على الاشتياق، فبقدر طول البين يعظم قدر الوصال، وبقدر حمل مشاق الطلب يظفر بالمأمول‏.‏ فجدّ أيها العبد في طلب مولاك، وغبَ في سيرك إليه عن حظوظك وهواك، تظفر بالوصْل الدائم في عزك وعُلاك، وتتصل بكل ما كنت تأمله من مطالبك ومنُاك‏.‏ وأنشدوا‏:‏

وإنِ امْرُؤ أَمْسَى بِقُرْبِك نَازِلاً *** فَأَهْلاً بِه، حَازَ الفَضَائِلَ كُلّها

وألبسته حُلْيَ المحاسِن فاكْتَسَى *** حُلَلَ الرضَا فازْدَادَ قُرْبا ما انْتَهَى

وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏فاطر‏)‏‏:‏ نعت المنادي، أو منادى بنفسه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ حاكياً عن يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏ربِّ قد آتيتني من المُلكِ‏}‏ أي‏:‏ من بعض الملك، وهو ملك مصر، ‏{‏وعلمتني من تأويل الأحاديث‏}‏؛ الكتب المتقدمة، أو تأويل الرؤيا‏.‏ و«من»‏:‏ للتبعيض فيهما؛ إذ لم يعط ملك الدنيا كلها، ولا أحاط بالعلم كله‏.‏ ‏{‏فاطِرَ السَّماواتِ والأرض‏}‏‏:‏ مبدعهما ومنشئهما، ‏{‏أنت وليي في الدنيا والآخرة‏}‏‏:‏ أنت ناصري ومتولي أمري في الدارين، ‏{‏توفني مسلماً‏}‏‏:‏ اقبضني ملسماً؛ ‏{‏وألحقني بالصالحين‏}‏ من آبائي، أو جماعة الصالحين في الرتبة والكرامة، أو بالصالحين لحضرة قدسك‏.‏

رُوي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة، ثم توفي، فنقله يوسف عليه السلام إلى الشام ليُدفن مع أبويه‏.‏ هكذا ذكر بعض المفسرين‏.‏ وقال في الزهر الأنيق‏:‏ بقي يعقوب عليه السلام بمصر أربعين سنة في أطيب وقت، وأكمل عافية، ثم أوحى الله إلى جبريل‏:‏ أن انزل إلى يعقوب، وقال له‏:‏ يرحل إلى الأرض المقدسة، عند قبور آبائه، يجاورهم حتى أُلحِقَه بهم‏.‏ فنادى يعقوب عليه السلام يوسفَ وأولاده، وقال لهم‏:‏ قد أمرني ربي بمجاورة أبي؛ ليقبض روحي هناك، ثم ودَّعهم وخرج إلى الأرض المقدسة فزار قبور آبائه فبكى، فرأى في المنام إبراهيم على كرسي، وإسماعيل عن يمينه، وإسحاق عن يساره، وهم يقولون‏:‏ ألْحق بنا يا يعقوب، فانتبه، ثم قالم فوجد قبراً محفوراً تخرج منه رائحة المسك، فقال‏:‏ لمن هذا‏؟‏ قال له مَلَكٌ عنده‏:‏ هو لمن يتمنى سكناه، فقال‏:‏ أنا، فقبض روحه ملكُ الموت، ثم نزل جبريلُ وميكائيلُ عليهما السلام وكفناه وصليا عليه، ودفناه‏.‏

قال كعب الأحبار‏:‏ توفي يعقوب وهو ابن مائتي سنة، ولما وصل نعيُه يوسفَ بكى، وبكى معه إخوته‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ظاهره أنهم لم يحضروا موته‏.‏ وهو خلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏، إلا أن يؤول بمعنى‏:‏ قرب، فتكون وصيته وقعت حين أراد الرجوع إلى الشام، وهو خلاف الظاهر‏.‏

ثم أن يوسف تاقت نفسه إلى الملك المخلد، فتمنى الموت، فقال‏:‏ ‏{‏رب قد آتيتني من الملك‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ رُوي أنه عاش بعد قوله هذا مدة، ثم ماتت زليخا، ولم يتزوج بعدها، وعاش بعدها أربعين يوماً، ثم اشتاق إلى اللقاء واللحوق بآبائه، فتوفاه الله طيَّباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر في مدفنه، حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مَرمَر أي‏:‏ رُخام فيدفعوه في النيل بحيث يمر عليه الماء، ثم يصل إلى مصر؛ ليكونوا شرْعاً فيه‏.‏ وفي رواية‏:‏ أنهم دفنوه في ضفة النيل؛ فخصبت وجدبت الأولى، فجعلوه في صندوق، ودفنوه في النيل؛ فاخضرت الجهتان، ثم نقله موسى عليه السلام إلى مدفن آبائه‏.‏

وكان عمره‏:‏ مائة وعشرين سنة، وقد تقدم ذكر أولاده الثلاثة‏:‏ إفراثيم، وميشا، ورحمة امرأة أيوب، وتقدم البحث فيها، وذكر في الزهر الأنيق أنه ولد له من زليخا عشرة أولاد، فانظره‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كان العبد في زيادة من الأعمال، وفي الترقي إلى مقامات الكمال، فلا بأس أن يتمنى البقاء في هذه الدار؛ لزيادة الزاد إلى دار القرار، وإذا كان في نقصان من الأعمال، أو خاف النقصان بعد الكمال، فلا بأس بطلب الرحيل والانتقال؛ كما طلبه الصَّديق عليه السلام بعد الملك التام‏.‏ وكما فعل عمر رضي الله عنه حين انتشرت رعيته، وخاف التقصير في سيرته‏.‏ وقد تقدم في سورة البقرة تفصيل ذلك، ولقد أحسن الشاعر في التحذير، من الاغترار بزخرف هذه الدار، فقال‏:‏

هُو الحِمَامُ فلا تُبْعِدْ زِيَارَتَه *** ولا تَقُلْ‏:‏ لَيْتَني منه على حَذَرِ

يَا وَيحْ مَن غَرَّه دَهْرٌ فَسُرَّ به *** لَم يَخْلُص الصَّفْوُ إلا شِيبَ بالكَدَرِ

انْظُر لِمَنْ باد تنْظُرْ آية عَجَباً *** وعِبْرَةً لأُولِي الأبصَارِ والبَصَرِ

بَادُوا فعَادُوا حَديثاً، إنَّ ذَا عَجَبٌ *** ما أَوْضَحَ الرُّشْدَ لولا غَفلَةُ النَّظَرِ

تَنَافَسَ النَّاسُ في الدُّنيا وَقَدْ عَلِمُوا *** أن الزمانَ إذا فَكَّرت ذو غِيرِ

وَاعمَل لأُخْرَاكَ لا تَبْخَلْ بِمَكْرمُةٍ *** ومَهَّدِ العُذْرَ؛ ليْس العينُ كَالأَثرِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 107‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ذلك‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏من أنباء الغيب‏)‏‏:‏ خبر‏.‏ و‏(‏نوحيه‏)‏‏:‏ حال‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ذلك أي‏:‏ خبر يوسف وقصته، هو ‏{‏من أنباء‏}‏ أخبار ‏{‏الغيب‏}‏ التي لم يكن لك بها علم، وإنما عَلِمْتَه بالوحي الذي ‏{‏نُوحيه إليك‏}‏ فأخبرتهم به‏.‏ ‏{‏وما كنت لديهم‏}‏ أي‏:‏ وما حضرت عندهم، ‏{‏إذ أجمعوا أمرَهم‏}‏‏:‏ حين عزموا أمرهم على أن يجعلوه في غَيَِابَةِ الجب، ‏{‏وهم يمكرون‏}‏ به، وبأبيه؛ ليرسله معهم‏.‏ ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحداً من الأحبار فتعلمت ذلك منه، فتحققوا أنه وحي من عند الله، ولكن جحدوا؛ ‏{‏وما أكثرُ الناس ولو حرصْتَ‏}‏ على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات لهم، ‏{‏بمؤمنين‏}‏؛ لعنادهم وتصميمهم على الكفر، ‏{‏وما تسألُهم عليه‏}‏ على تبليغ هذا النبأ، أو القرآن، ‏{‏من أجرٍ‏}‏؛ كما يفعله حملة الأخبار من الأحْبار‏.‏ ‏{‏إن هو إلا ذِكْرٌ‏}‏‏:‏ عظة من الله، ‏{‏للعالمين‏}‏ من الجن والإنس‏.‏

‏{‏وكأيّنَ‏}‏‏:‏ كثيراً ‏{‏من آية في السماوات والأرضِ‏}‏ الدالة على وجود صانعها وتوحيده، وكمال قدرته وتمام حكمته، ‏{‏يَمرُّونَ عليها‏}‏ ويشاهدونها، ‏{‏وهم عنها مُعْرِضُون‏}‏‏:‏ لا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون‏.‏ ‏{‏وما يؤمن أكثرُهُم بالله‏}‏ أي‏:‏ وما يصدق أكثرهم بوجود الله في إقرارهم، بوجوده، وخالقيته للأشياء، وأنه الرزّاق المميت‏.‏ ‏{‏إلا وهم مشركون‏}‏ بعبادة الأصنام، أو باتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً، أو بنسبة التبني إليه، أو الوقوف مع الأسباب، أو غير ذلك من أنواع الشرك الجلي والرهبان أرباباً، أو بنسبة التبني إليه، أو بالوقوف مع الأسباب، أو غير ذلك من أنواع الشرك والجلي والخفي‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في مشركي مكة، وكانوا يقولون في تلبيتهم‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريكاً تملكه وما ملك‏:‏ وقيل‏:‏ في أهل الكتاب‏.‏ ‏{‏أفأمنوا أن تأتيهم غاشيةٌ‏}‏‏:‏ عقوبة تغشاهم وتشملهم، ‏{‏من عذاب الله‏}‏ المرسل على الأمم المتقدمة، ‏{‏أو تأتيهم الساعةُ بغتهً‏}‏‏:‏ فجأة، ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ بإتيانها، غير مستعدين لها‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏‏:‏ مثله يقال لأهل الوعظ والتذكير، الداعين إلى مقام الخصوصية، وما أكثر الناس ولو حرصت على هدايتهم، بمهتدين إلى مقام الخصوصية؛ لأن أهل الخصوصية أفراد قليلون في كل زمان؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وتقدم في سورة هود ما يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وما تسألهم عليه من أجر‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأيِّن من آية‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، فيه ذم الغفلة، والإعراض عن التفكر والاعتبار؛ فإن الحق جل جلاله ما أظهر هذه الكائنات إلا ليعرف بها، وتظهر فيها أسرار ذاته، وأنوار صفاته‏.‏ قال في لطائف المنن‏:‏ فما نصبت الكائنات لتراها، ولكن لترى فيها مولاها؛ فمراد الحق منك أن تراها بعين من لا يراها؛ تراها من حيث ظهوره فيها، ولا تراها من حيث كونيتها‏.‏

قال‏:‏ ولنا في هذا المعنى‏:‏

ما أثبتَ لَكَ المعالم إلا *** لِتَراهَا بعَيْنِ مَن لا يَرَاهَا

فَارْقَ عَنهَا رُقِيَ منْ لَيْس يَرضَى *** حَالةً دُون أن يرى مَولاهَا‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون‏}‏‏:‏ لا ينجو من الشرك الخفي إلا أهل التوحيد الخاص، وهم الذين غابوا عن الأكوان جملةً بشهود المكون، قد سقط من نظرهم وجود الأغيار، وتطهرت سرائرهم من لوث الأكدار، ولم يبق في مشهدهم إلا الواحد القهار، فلم يعتمدوا على الوسائط والأسباب، برؤية مسبب الأسباب، ولم يركنوا إلى العشائر والأصحاب، فإن التفتوا إلى غيره، غفلةً، أدبهم، وردهم إلى حضرته‏.‏ هذا شأنهم معه أبداً‏.‏ جعلنا الله منهم، وخرطنا في سلكهم آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏أدعوا‏)‏‏:‏ حال من الياء‏.‏ و‏(‏على بصيرة‏)‏‏:‏ حال ثان، و‏(‏أنا ومن اتبعني‏)‏‏:‏ الضمير تأكيد للمستكن في ‏(‏أدعو‏)‏، أو في ‏(‏على بصيرة‏)‏، أو مبتدأ خبره‏:‏ ‏(‏على بصيرة‏)‏، مقدم‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏هذه سبيلي‏}‏‏:‏ طريقي الذي جئتُ به من عند ربي؛ وهي الدعوة إلى التوحيد، والتاهب ليوم المعاد‏.‏ ثم فسرها بقوله‏:‏ ‏{‏أدعو إلى الله‏}‏، أول حال كوني داعياً إلى الله، أي‏:‏ إلى توحيده ومعرفته والأدب معه، ‏{‏على بصيرة‏}‏‏:‏ حجة واضحة، وبينة من ربي، لا عن تقليد أو عمى‏.‏ أدعو إلى الله ‏{‏أنا ومن اتبعني‏}‏؛ فمن كان على قدمي فهو يدعو أيضاً إلى الله علي بصيرة وبينة من ربه، ‏{‏وسبحان الله‏}‏‏:‏ وأنزهه عن الشركاء والأنداد، ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏ به شركاً جلياً ولا خفياً، بل مخلصاً موحداً‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يصلح العبد أن يكون داعياً إلى الله حتى يكون على بصيرة من ربه، بحيث لا يبقى فيه تقليد بحت، ولا يختلجه شك ولا هم‏.‏ والدعاة إلى الله على ثلاث مراتب‏:‏ فمنهم من يدعو على بصيرة الإسلام؛ وهم الدعاة إلى معرفة أحكام الله وشرائعه، ومنهم من يدعو على بصيرة الإيمان، وهم الدعاة إلى معرفة صفات الله تعالى وكمالاته، ومعرفة ما يجب له تعالى وما يستحيل وما يجوز على طريق البرهان الواضح‏.‏ ومنهم من يدعو إلى الله على بصيرة الإحسان، وهم الدعاة إلى معرفة الذات العلية على نعت الشهود والعيان، من طريق الذوق والوجدان؛ وهم العارفون بالله، أهل النور المخرق، بحيث كل من واجههم خرق النور إلى باطنه‏.‏ وهذه الدعوة الحقيقية والبصيرة النافذة، وأهل هذا المقام هم اهل التربية النبوية، فدعوة هؤلاء أكثر نفعاً، وأنجح تأثيراً؛ في زمن يسير؛ يهدي الله على أيديهم الجم الغفير‏.‏

قال في نوادر الأصول‏:‏ الداعي إلى الله على بصيرة أي معاينة هو الذي قلبه عند الله، وعلى بصيرة في الطريق، ومحل القلوب في تلك المراتب؛ ناطقاً بالله، عن الله، فلذلك يلج آذان المستمعين، مع الكسوة التي تخرق كل حجاب، وهو نورالله، لأنه خرج من قلب مشحون بالنور، فخرق كل حجاب قد تراكم على قلوب المخلطين، فخلصها إلى نور التوحيد فأنارها؛ بمنزلة جمرة وصلت النفخة إليها، فالتهبت ناراً، فاضاءت البيت‏.‏ وهذا سبيل الناطق عن الله‏.‏ ثم قال‏:‏ وكيف يجوز الدعاء إلى الله لمن ليس عند الله، وهو لله، وإنما قلبه عند نفسه ولنفسه، مشغول بنهمته وشهواته وأحواله، وإنما هذا لمن تفرغ من نفسه، واشتغل بالله‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏نوحى‏)‏‏:‏ نعت لرجال، وكذا ‏(‏من أهل القرى‏)‏‏:‏ نعت ثان، و‏(‏حتى‏)‏‏:‏ غاية لمحذوف، أي‏:‏ وما أرسلنا إلا رجلاً يوحى إليهم فأوذوا مثلك، ودام عليهم، حتى إذا استيأسوا جاءهم نصرنا‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك‏}‏ يا محمد ‏{‏إلا رجالاً‏}‏ بشراً لا ملائكة، وهو رد لقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ نفي استنباء النساء‏.‏ وصفة أولئك الرجال‏:‏ ‏{‏يوحَى إليهم‏}‏ كما أوحي إليك، فتميزوا بالوحي عن غيرهم، وهم ‏{‏من أهل القُرى‏}‏‏.‏ وهم المدن والأمصار، والمداشر الكبار؛ لأنهم أحلم وأعلم، بخلاف أهل العمود فإنهم أهل جفاء وجهالة‏.‏ قال الحسن‏:‏ ‏(‏لم يبعث الله نبياً من أهل البادية، ولا من النساء ولا من الجن‏)‏‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ والتَّبَدِّي مكروه إلا في الفتن، وحين يُفَرُّ بالدين، لحديث‏:‏ «يُوشِكُ أن يَكونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِم غَنما يَتْبَعُ بها سَعَفَ الجِبَالِ‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ والفتنة تتنوع بتنوع المقامات؛ ففتنة أهل الظاهر‏:‏ تعذر إقامة الشريعة لكثرة الهرج والفتن، وفتنة أهل الباطن‏:‏ تعذر جمع القلب بالله؛ لكثرة الحس، وتعرض الشواغل والعلائق‏.‏ فمن وجد ذلك في الحواضر فلينتقل إلى البوادي، إن وجد من يعينه على الدين‏.‏ والغالب أن الحواضر في هذا الزمان يغلب فيها العوائد والشهوات، وتعتري فيها الشواغل والشواغب، بخلاف البادية‏.‏ فإذا كان عليه الصلاة والسلام أذن لسَلَمة‏:‏ خوف فتنة الظاهر، فأولى خوف فتنة الباطن؛ لأنه إذا فسد القلب فسد الجسد كله‏.‏

ثم قال ابن عطية‏:‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تعرب في الإسلام» وقال‏:‏ «مَن بَدَا جَفَا» وعن معاذ بن جبل أنه قال‏:‏ ‏(‏الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الإِنْسَانِ، كذِئبِ الغَنَمِ؛ يَأخُذُ الشَّاةَ القَاصية؛ فإِيَّاكُمْ والشِّعاب، وَعَليكم بالمَسَاجِدِ، والجَمَاعَاتِ، والعَامةَ‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ويعترض هذا ببدو يعقوب، وينفصل عن ذلك بوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن ذلك البدو لم يكن في أهل العمود، بل بَتَقَرِّ في منازل وربوع، والثاني‏:‏ إنما جعله بدواً بالإضافة إلى مصر، كما هي بنات الحواضر الصغار بَدْوٌ بالإضافة إلى الحواضر الكبار‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ فالتعرب المنهي عنه هو اعتزال الرجل وحده في جبل أو شِعْبٍ، وإما إن تقرر في جماعة يقيمون الدين، ويجتمعون عليه، فليس بتعرب ولا بدو‏.‏ ويدل عليه جواب ابن عطية الأول عن يعقوب عليه السلام‏.‏ والحاصل‏:‏ أن أهل القلوب بفتشون على مصالح قلوبهم، فأينما وجدوها فهي حاضرتهم‏.‏ وقد ظهر في البوادي أكابر من الأولياء، ربما لم يظهروا في الحواضر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا‏}‏ أي‏:‏ كفار مكة، ‏{‏في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم‏}‏ من المكذبين لرسلهم‏:‏ كيف هلكوا وتركوا آثارهم يشاهدونها خراباً دارسة، فيحذروا تكذيبك، ليؤمنوا ويتأهبوا للدار الآخرة؛ ‏{‏ولَدَار الآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ ولدار الحياة الآخرة ‏{‏خير للذين اتقوا‏}‏ الشرك والمعاصي، ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏، وتستعملون عقولكم لتعلموا أنها خير‏.‏

أو‏:‏ أفلا يعقلون الذين يسيرون في الأرض ليعلموا أن الدنيا فانية، والدار الآخرة خير؛ لأنها باقية‏.‏

فإن أبيتم وكذبتم نبيكم فقد كذب من قبلكم رسلهم، وآذوهم، وتأخر نصرهم، ‏{‏حتى إذا استيأس الرسل‏}‏ من النصر، أو من إيمان قومهم؛ لانهماكهم في الكفر، وتماديهم من غير وازع، ‏{‏وظنوا‏}‏ أي‏:‏ تيقنوا ‏{‏أنهم قد كذبوا‏}‏ أي‏:‏ أن قومهم كذبوهم فيئسوا من إيمانهم‏.‏ أو‏:‏ ظنوا أن من آمن بهم قد كذبوهم؛ لطول البلاء وتأخر النصر‏.‏ وأما قراءة ‏(‏كُذِبُوا‏)‏؛ بالتخفيف؛ فمعناه‏:‏ وظنوا أنهم قد كذب عليهم في وعد النصر‏.‏‏.‏ وأنكرت عائشة رضي الله عنها هذه الرواية، وقالت‏:‏ معاذ الله؛ لم تكن الرسل تظن بربها ذلك‏.‏ كما في البخاري‏.‏

وقد يجاب بأن ذلك كانت خواطر وهواجس من وسواس النفس، يمر ولا يثبت، وهو من طبع البشر، لا يدخل تحت التكليف‏.‏ وسماه ظناً؛ مبالغة في طلب المراقبة، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد همت به وهم بها‏}‏‏.‏ وقال ابن جزي، على هذه القراءة‏:‏ الضميران يعودان على المرسل إليهم، أي‏:‏ ظن الأتباع أن الرسل قد كذبوا عليهم في دعوى الرسالة، أو في مجيء النصر لما اشتد عليهم البلاء، وتأخر عنهم النصر‏.‏

فلما يئسوا ‏{‏جاءهم نصرنا فنُجَّي من نشاء‏}‏ نجاته‏:‏ وهو‏:‏ النبي والمؤمنون‏.‏ وإنما لم يعينهم؛ للدلالة على أنهم الذين يستأهلون نجاتهم بالمشيئة القديمة، لا يشاركهم فيها غيرهم، ‏{‏ولا يُردُّ بأسُنا عن القوم المجرمين‏}‏ إذا نزل بهم‏.‏ وفيه بيان المستثنين بالمشيئة، كأنه قال‏:‏ ولا نشاء نجاة المجرمين‏.‏

الإشارة‏:‏ قد وجد كثير من الأولياء بالمدن والحواضر، وكثير منهم في القرى والمداشر‏.‏ وفضل الله يؤتيه من يشاء، لا يختص بمكان ولا زمان، غير أن جلهم جمعوا بين علم المدن وتفرغ البوادي، يعني‏:‏ جمعوا بين شريعة المدن وحقيقة البوادي؛ لأن أهل المدن شريعتهم قوية، وحقيقتهم ضعيفة‏.‏ والبوادي بالعكس؛ لكثرة العلائق في المدن وخفتها في البوادي، والحقيقة تحتاج إلى تفرغ كبير وتفكر كثير، والله تعالى أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظنوا أنهم قد كذبوا‏}‏ بالتخفيف، معناه‏:‏ أنهم لم يقفوا مع ظاهر الوعد؛ لسعة علمهم؛ لأن ذلك الوعد قد يكون في علم الغيب متوقفاً على شروط خفية لا يعلمها ذلك النبي أو الولي، ليتحقق انفراده تعالى بالعلم الحقيقي، والقهرية الغالبة‏.‏ فلذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ إنهم استغرقوا في قلْزُوم الأزلية، وغابوا تحت بحار الديمومية، ولم يروا الحق من كمال استغراقهم في الحق‏.‏ فلما لم يروه ناداهم لسان غيْره قهر القدم‏:‏ أين أنتم‏؟‏ غبتم عنه وعن الحقيقة، فتطُلع أنوار الحقيقة عليهم، ويأخذ لطفها عن شبكات امتحان القهر‏.‏

وهذا دأب الحق مع الأنبياء والأولياء حتى لا يسكنوا إلى ما وجدوا منه، بل يفنوا به عن كل ماله إليهم‏.‏ ه‏.‏

قال المحشي الفاسي‏:‏ وحاصل ما أشار إليه‏:‏ أن قراءة التخفيف تشير إلى أخذهم عن الوقوف مع الوعد، والسكون إليه، غيبةً في الحق عن مقتضى وعده، لا تكذيباً لوعده، بل ذلك احوالٌ غالبة آخذة عن الصفة، غيبةً في الموصوف‏.‏ وهذا حال الصوفي كما يعرف ذلك أهله‏.‏ وهو صحيح في نفسه ولكنه بعيد عن مرمى الآية؛ فإن صاحب الغيبة لا يوصف بظن خلاف الوعد، وإن كان غائباً عنه‏.‏ وأقرب منه ما ذكره الترمذي الحكيم‏:‏ من أن ذلك كان لظن فقد شرط في الموعود أوجب عدَم القطع لوقوع الوعد‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد قال في الحِكم‏:‏ «لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود، وإن تعين زمنه»‏.‏ يعني أنه قد يتخلف لفقد شرط؛ كما في قضية الجرْو الذي تخلف جبريل من أجله‏.‏ أو لعدم تحقيق الوقت؛ لأن تعيينه كان من قبل أنفسهم من غير وحي، فلما تأخر ظنوا ذلك بأنفسهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ ه‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لما تأخر عنهم النصر هجس في أنفسهم تخلف الوعد؛ خوفاً أن يكون متوقفاً على شرط لم يعلموه، أو جعلوا له وقتاً فهموه من أمارات، فلما تأخر عنه ظنوا أنه قد تخلف‏.‏ وأما قضية الجرو الذي أشار إليهم‏:‏ فكان جبريل عليه السلام وعد نبينا صلى الله عليه وسلم أن يأتيه في وقت مخصوص، فدخل جرو البيت، فلم ينزل في ذلك الوقت، فلما نزل بعد ذلك، قال‏:‏ «إنما تَخلَّفْنَا عن الوقت؛ لأَنَّ الملائكة لا تَدخلُ بَيْتاً فيه كَلْبٌ» كما في الصحيح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏لقد كان في قصصهم‏}‏ أي‏:‏ في قصص الأنبياء وأممهم، أو في قصة يوسف وإخوته، ‏{‏عبرةٌ لأولي الألباب‏}‏‏:‏ لذوي العقول الصافية الخالصة من شوائب الإلف والعادة، ومن الركون إلى الحس؛ لأن الإخبار بهم على يد نبي أمي آية واضحة لمن تفكر بقلب خالص‏.‏ ‏{‏ما كان حديثاً يُفترى‏}‏ أي‏:‏ ما كان القرآن حديثاً مُفترىً، ‏{‏ولكن‏}‏ كان ‏{‏تصديقَ الذي بين يديه‏}‏ من الكتب الإلهية، ‏{‏وتفصيلَ كل شيء‏}‏ يحتاج إليه في الدارين؛ إذ ما من أمر ديني إلا وله مستند من القرآن بوسط، أو بغير وسط‏.‏ ‏{‏وهُدى‏}‏ من الضلال، ‏{‏ورحمةً‏}‏ ينال بها خير الدارين، ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏‏:‏ يصدقون به، ويتدبرون في معانيه‏.‏

الإشارة‏:‏ تفكر الاعتبار يشد عُروة الإيمان، وفكرة الاستبصار تشد عُروة الإحسان‏.‏ قال في الحِكَم‏:‏ «الفكرة فكرتان‏:‏ فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان‏.‏ فالأولى‏:‏ لأهل التفكر والاعتبار، والثانية‏:‏ لأهل الشهود والاستبصار»‏.‏ ومرجع الاعتبار إلى خمسة أمور‏:‏

الأول‏:‏ التفكر في سرعة انصرام الدنيا وانقراضها، وذهاب أهلها‏.‏ قرناً فقرنا، وجيلاً فجيلاً‏.‏ فيوجب ذلك الزهد في الدنيا، والإعْراض عن زخرفها الغرارة، والتأهب للدار الباقية‏.‏

الثاني‏:‏ التفكر في الدار الباقية، ودوام نعيمها، أو عذابها‏.‏ وذلك مرتب على السَّعْي في هذه الدار، فيوجب ذلك انتهاز الفرصة في الأعمال، واغتنام الأوقات والساعات قبل الفوات‏.‏

الثالث‏:‏ التفكر في النعم التي أنعم الحق تعالى بها على الإنسان؛ إما ظاهرة؛ كالعافية في البده، والزرق الحلال، وما يتبع ذلك مما لا يحصى؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وإما باطنة‏:‏ كنعمة الإسلام والإيمان، وصحيح العرفان، والاستقامة في الدين، ولا سيما إن رزقه الله من يأخذ بيده من شيخ عارف‏.‏ فهذه نعمة عظمى قَلَّ من يسقط عليها‏.‏ فيوجب له ذلك الشكر الذي هو أعلى المقامات، ومتكفِّل بالزيادات، قال تعالى ‏{‏لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏‏.‏‏.‏ ولا يعرف العبد ما عليه من النعم إلا بالتفكر في أضدادها، والنظر إلى أهل البلاء‏.‏

الرابع‏:‏ التفكر في عيوبه ومساوئه، لعله يسعى في تطهيرها، أو يشتغل بها عن عيوب غيره‏.‏

الخامس‏:‏ التفكر فيما أظهر الله تعالى من أنواع المكونات، وضروب المصنوعات؛ فيعرف بذلك جلالة الصانع، وعظيم قدرته، وإحاطة علمه، وحكمته‏.‏ فإن اتصل بشيخ عارف غيَّبه عنها بشهود مكونها‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏ وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏